سورة البقرة - تفسير تفسير ابن القيم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}
(الختم) قال الأزهري: أصله التغطية، وختم البذر في الأرض، إذا غطاه.
قال أبو إسحاق: معنى ختم وطبع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء والاستيثاق منه، فلا يدخله شيء، كما قال تعالى: {أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [47: 24] كذلك قوله: {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} [2: 94 و16: 108].
قلت: الختم والطبع يشتركان فيما ذكر، ويفترقان في معنى آخر، وهو أن الطبع ختم بصير سجيّة وطبيعة، فهو تأثير لازم لا يفارق.
وأما المرض:


{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
وقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [33: 32] وقال: {وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} [74: 31].
ومرض القلب خروجه عن صحته واعتداله. فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له، مؤثرا له على غيره، فمرضه إما بالشك فيه، وإما بإيثار غيره عليه.
فمرض المنافقين: مرض شك وريب، ومرض العصاة غي وشهوة.
وقد سمى اللّه سبحانه كلّا منهما مرضا.
قال ابن الأنباري: أصل المرض في اللغة: الفساد، مرض فلان: فسد جسمه، وتغيرت حاله. ومرضت بالمرض: تغيرت وفسدت، قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر:
ألم تر أنّ الأرض أضحت مريضة *** لفقد الحسين، والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء: فساد، وضعف، ونقصان، وظلمة. ومنه مرض الرجل في الأمر، إذا ضعف فيه. ولم يبالغ، وعين مريضة النظر: أي فاترة ضعيفة. وريح مريضة: إذا هبّ هبوبها، كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة ***
أي لينة ضعيفة، حتى لا يعفى أثرها.
وقال ابن الإعرابي: أصل المرض النقصان. ومنه: بدن مريض، أي ناقص القوة، وقلب مريض: ناقص الدين، ومرض في حاجتي: إذا نقصت حركته.
وقال الأزهري، عن المنذري عن بعض أصحابه: المرض إظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها. قال: والمرض الظلمة، وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية *** فما يضيء لها شمس ولا قمر
هذا أصله في اللغة.
ثم الشك، والجهل، والحيرة، والضلال، وإرادة الغي، وشهوة الفجور في القلب: تعود إلى هذه الأمور الأربعة، فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض، فيعاقبه اللّه بزيادة المرض، لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.


{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)}
شبه سبحانه أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا نارا لتضيء لهم، وينتفعوا بها فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين. فهم كقوم سفّر ضلوا عن الطريق، فأقدوا النار تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث.
فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب، مما يسمعه بأذنه، ويراه بعينه ويعقله بقلبه. وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى، فلا تسمع قلوبهم شيئا، ولا تبصره، ولا تعقل ما ينفعها.
وقيل: لما لم ينتفعوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزّلوا منزلة من لا سمع له ولا بصر ولا عقل. والقولان متلازمان.
وقال في صفتهم: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} لأنهم قد رأوا في ضوء النار، وأبصروا الهدى، فلما أطفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا.
وقال سبحانه وتعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل: ذهب نورهم.
وفيه سر بديع، وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من اللّه تعالى، فإن اللّه تعالى مع المؤمنين، و{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 153] و{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [16: 128].
فذهاب اللّه بذلك النور هو انقطاع المعية التي خصّ بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ولا معهم، فليس لهم نصيب من قوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} [9: 40] ولا من {كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [26: 63].
وتأمل قوله تعالى: {أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} كيف جعل ضوءها خارجا عنه منفصلا؟ ولو اتصل ضوؤها به ولابسه لم يذهب، ولكنه كان ضوء مجاورة، لا ملابسة ومخالطة. وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية. فرجع الضوء إلى معدنه وبقيت الظلمة في معدنها. فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به، حجة من اللّه تعالى قائمة. وحكمة بالغة، تعرّف بها إلى أولي الألباب من عباده.
وتأمل قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} ولم يقل بنارهم. ليطابق أول الآية. فإن النار فيها إشراق وإحراق. فذهب بما فيها من الإشراق- وهو النور- وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وهو النارية وتأمل كيف قال: {بنورهم} ولم يقل بضوئهم، مع قوله: {فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} لأن الضوء هو زيادة في النور. فلو قال: ذهب اللّه بضوئهم لأوهم الذهاب بالزيادة فقط، دون الأصل. فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته.
وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات، الذين لا نور لهم.
وأيضا فإن اللّه تعالى سمّى كتابه نورا، ورسوله نورا، ودينه نورا، ومن أسمائه النور، والصلاة نور، فذهابه سبحانه بنورهم: ذهاب بهذا كله.
وتأمل مطابقة هذا المثل لما تقدمه من قوله: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} كيف طابق بين هذه التجارة الخاسرة التي تضمنت حصول الضلالة والرضى بها، وبذل الهدى في مقابلتها، وحصول الظلمات التي هي الضلالة والرضى بها، بدلا عن النور الذي هو الهدى والنور، فبذلوا الهدى والنور، وتعوضوا عنه بالظلمة والضلالة، فيا لها من تجارة ما أخسرها! وصفقة ما أشد غبنها!.
وتأمل كيف قال اللّه تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ فوحده}، ثم قال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ} فجمعها. فإن الحق واحد، وهو صراط اللّه المستقيم، الذي لا صراط يوصل إليه سواه، وهو عبادة اللّه وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ولا بالأهواء والبدع، وطرق الخارجين عما بعث اللّه به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، من الهدى ودين الحق، بخلاف طرق الباطل.
فإنها متعددة متشعبة. ولهذا يفرد اللّه سبحانه الحق ويجمع الباطل، كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ} [2: 257] وقال تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [6: 153] فجمع سبيل الباطل، ووحد سبيل الحق. ولا يناقض هذا قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [5: 16] فإن تلك هي طرق مرضاته التي يجمعها سبيله الواحد، وصراطه المستقيم. فإن طرق مرضاته كلها ترجع إلى صراط واحد وسبيل واحد، وهي سبيله التي لا سبيل إليه إلا منها. وقد صح النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه: «خط خطا مستقيما، وقال: هذا سبيل اللّه، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}».
وقد قيل: إن هذا مثل للمنافقين وما يوقدونه من نار الفتنة التي يوقعونها بين أهل الإسلام، ويكون بمنزلة قول اللّه تعالى: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [5: 64] ويكون قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} مطابقا لقوله تعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ويكون تخييبهم وإبطال ما راموه: هو تركهم في الظلمات والحيرة لا يهتدون إلى التخلص مما وقعوا فيه، ولا يبصرون سبيلا، بل هم صم بكم عمي.
وهذا التقدير- وإن كان حقا- ففي كونه مرادا بالآية نظر. فإن السياق إنما قصد لغيره، ويأباه قوله تعالى: {فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ} وموقد نار الحرب لا يضيء ما حوله أبدا، ويأباه قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} وموقد نار الحرب لا نور له. ويأباه قوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ} وهذا يقتضي أنهم انتقلوا من نور المعرفة والبصيرة إلى ظلمة الشك والكفر.
قال الحسن: هو المنافق، أبصر ثم عمي، وعرف ثم أنكر. ولهذا قال: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يرجعون إلى النور الذي فارقوه.
وقال تعالى في حق الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [2: 171] فسلب العقل عن الكفار، إذ لم يكونوا من أهل البصيرة والإيمان، وسلب الرجوع عن المنافقين، لأنهم آمنوا ثم كفروا فلم يرجعوا إلى الإيمان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8